الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (20- 21): {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}قوله تعالى: {وشروه} أي باعوه وقد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال شريت الشيء بمعنى بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في وشروه وفي وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى شيء واحد وذلك أن إخوته زهدوا فيه فباعوه وقيل إن الضمير في وشروه يعود على مالك بن ذعر وأصحابه فعلى هذا القول يكون لفظ الشراء على بابه {بثمن بخس} قال الحسن والضحاك ومقاتل والسدي: بخس أي حرام لأن ثمن الحر حرام ويسمى الحرام بخساً لأنه مبخوس البركة يعني منقوصها وقال ابن مسعود وابن عباس: بخس أي زيوف ناقصة العيار وقال قتادة: بخس أي ظلم والظلم نقصان الحق يقال ظلمه إذا نقصه حقه وقال عكرمة والشعبي: بخس أي قليل وعلى الأقوال كلها فالبخس في اللغة هو نقص الشيء على سبيل الظلم والبخس والباخس الشيء الطفيف {دراهم معدودة} فيه إشارة إلى قلة تلك الدراهم لأنهم في ذلك الزمان ما كانوا يزنون أقل من أربعين درهماً إنما كانوا يأخذون ما دونها عدداً فإذا بلغت أربعين درهماً وهي أوقية وزنوها واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: كانت عشرين درهماً فاقتمسوها درهمين درهمين فعلى هذا القول لم يأخذ أخوه من أمه وأبيه شيئاً منها، وقال مجاهد: كانت اثنين وعشرين درهماً فعلى هذا أخذ أخوه منها درهمين لأنهم كانوا أحد عشر أخاً وقال عكرمة كانت أربعين درهماً {وكانوا فيه من الزاهدين} يعني وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين وأصل الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يكن له فيه رغبة والضمير في قوله وكانوا فيه من الزاهدين إن قلنا أنه يرجع إلى أخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه وأرادوا إبعاده عنهم ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن وإن قلنا إن قوله وشروه وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى معنى واحد وهو أن الذين شروه كانوا فيه من الزاهدين كان وجه زهدهم فيه إظهار قلة الرغبة فيه ليشتروه بثمن بخس قليل.ويحتمل أن يقال: إن إخوته لما قالوا إنه عبد نا وقد أبق أظهر المشتري قلة الرغبة فيه لهذا السبب قال أصحاب الأخبار ثم إن مالك بن ذعر وأصحابه لما اشتروا يوسف انطلقوا به إلى مصر وتبعهم إخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق منكم فذهبوا به حتى قدموا مصر فعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس، وكان قطفير صاحب أمر الملك وكان على خزائن مصر وكان يسمى العزيز وكان الملك بمصر ونواحيها اسمه الريان بن الوليد بن شروان وكان من العماليق، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف واتبعه على دينه ثم مات ويوسف عليه الصلاة والسلام حي.قال ابن عباس: لما دخلوا مصر لقي قطفير مالك بن ذعر فاشترى يوسف منه بعشرين ديناراً وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر ودخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ وزنه ذهباً ووزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره يومئذ ثلاث عشرة سنة أو سبع عشرة سنة فابتاعه قطفير بهذا الثمن فذلك قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر} يعني قطفير من أهل مصر {لأمرأته} وكان اسمها راعيل وقيل زليخا {أكرمي مثواه} يعني أكرمي منزله ومقامه عندك والمثوى موضع الإقامة وقيل أكرميه في المطعم والملبس والمقام {عسى أن ينفعنا} يعني إن أردنا بيعه بعناه بربح أو يكفينا بعض أمورنا ومصالحنا إذا قوي وبلغ {أو نتخذه ولداً} يعني نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد، قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وابنة شعيب في موسى حيث قالت لأبيها استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر في عمر استخلفه بعده {وكذلك مكَّنّا ليوسف في الأرض} يعني كما مننا على يوسف بأن أنقذناه من القتل وأخرجناه من الجب كذلك مكناه في الأرض يعني أرض مصر فجعلناه على خزائنها {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} أي مكنا له في الأرض لكي نعلمه من تأويل الأحاديث يعني عبارة الرؤيا وتفسيرها {والله غالب على أمره} قيل الكناية في أمره راجعة إلى الله تعالى ومعناه والله غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا دافع لأمره ولا راد لقضائه ولا يغلبه شيء وقيل هي راجعة إلى يوسف ومعناه أن الله مستولٍ على أمر يوسف بالتدبير والإحاطة لا يكله إلى أحد سواه حتى يبلغ منتهى ما علمه فيه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يعني ما هو صانع بيوسف وما يريد منه..تفسير الآيات (22- 23): {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}{ولما بلغ أشده} يعني منتهى شبابه وشدته وقوته، وقال مجاهد: ثلاثة وثلاثون سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال الكلبي: الأشد ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين سنة وسئل مالك عن الأشد فقال: هو الحلم {آتيناه حكماً وعلماً} يعني آتينا يوسف بعد بلوغ الأشد نبوة وفقهاً في الدين وقيل حكماً يعني أصابة في القول وعلماً بتأويل الرؤيا وقيل الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم هو الذي يعلم الأشياء بحقائقها والحكيم هو الذي يعمل بما يوجبه العلم وقيل الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي والعلم هو العلم النظري {وكذلك} يعني وكما أنعمنا على يوسف بهذه النعم كلها كذلك {نجزي المحسنين} قال ابن عباس: يعني المؤمنين وعنه أيضاً المهتدين، وقال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} يعني أن امرأة العزيز طلبت من يوسف الفعل القبيح ودعته إلى نفسها ليواقعها {وغلقت الأبواب} أي أطبقتها وكانت سبعة لأن مثل هذا لفعل لا يكون إلا في ستر وخفية أو أنها أغقلتها لشدة خوفها {وقالت هيت لك} أي هلم وأقبل، قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران رفعت إلى الحجاز معناها تعال، وقال عكرمة أيضاً بالحوارنية: هلم، وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشيء وقيل هي بالعبرانية وأصلها هيتالج أي تعال فعربت فقيل هيت لك فمن قال إنها بغير لغة العرب يقول إن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وقرئ هئت لك بكسر الهاء مع الهمزة ومعناها تهيأت لك {قال} يعني يوسف {معاذ الله} أي أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه فيما دعوتني إليه {إنه ربي} يعني أن العزيز قطفير سيدي {أحسن مثواي} أي أكرم منزلتي فلا أخونه وقيل إن الهاء في إنه ربي راجعة إلى الله تعالى والمعنى يقول إن الله ربي أحسن مثواي يعني أنه آواني ومن بلاء الجب نجاني {إنه لا يفلح الظالمون} يعني إن فعلت هذا الفعل فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون، وقيل: معناه أنه لا يسعد الزناة..تفسير الآية رقم (24): {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}قوله عز وجل: {ولقد همَّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} الآية، هذه الآية الكريمة مما يجب الاعتناء بها والبحث عنها والكلام عليها في مقامين الأول في ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية قال المفسرون: الهمّ هم المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، وقيل: اللهم مصدر هممت بالشيء إذا أردته وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه فمعنى قوله ولقد همَّت به أي أرادته وقصدته فكان همهما به عزمها على المعصية والزنا،وقال الزمخشري: همَّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي:وقوله: {ولقد همَّت به} معناه ولقد همت بمخالطته وهم بها أي وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها قال البغوي وأما همه بها فروي عن ابن عباس أنه قال حلّ الهميان وجلس منها مجلس الخائن، وقال مجاهد: حل سراويله وجعل يعالج ثيابه، وهذا قول أكثر المفسرين منهم سعيد بن جبير والحسن وقال الضحاك: جرى الشيطان بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف وبيده الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما، قال أبو عبيده القاسم بن سلام: وقد أنكر قوم هذا القول قال البغوي: والقول ما قاله قدماء هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم، قال السدي وابن إسحاق: لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت: يا يوسف ما أحسن شعرك، قال: هو أول ما ينتثر عن جسدي، قالت: ما أحسن عينيك، قال: هي أول ما يسيل على خدي في قبري، قالت: ما أحسن وجهك، قال: هو للتراب يأكله. وقيل: إنها قالت له إن فراش الحرير مبسوط قم فاقض حاجتي قال: إذن يذهب نصيبي من الجنة. فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل وهي امرأة حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به فهم بها ثم إن الله تدارك عبد ه يوسف بالبرهان الذي ذكره وسيأتي الكلام على تفسير البرهان الذي رآه يوسف عليه الصلاة والسلام فهذا ما قاله المفسرون في هذه الآية أما المقام الثاني في تنزيه يوسف عليه الصلاة والسلام عن هذه الرذيلة وبيان عصمته من هذه الخطيئة التي ينسب إليها. قال بعض المحققين: الهم همان فهم ثابت وهو ما كان معه عزم وقصد وعقيدة رضا مثل هم امرأة العزيز فالعبد مأخوذ به وهم عارض وهو الخطرة في القلب وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل به ويدل على صحة هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى:«إذا هم عبد ي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة واحدة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشرة» لفظ مسلم وللبخاري بمعناه.(ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن همّ بسيئة ولم يعملها كتبها الله له عنده حسنة وإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عليه سيئة واحدة» زاد في رواية أو محاها «ولن يهلك على الله إلا هالك» قال القاضي عياض في كتابه الشفاء فعلى مذهب كثير من الفقهاء المحدثين إن هم النفس لا يؤاخذ به وليس سيئة وذكر الحديث المتقدم فلا معصية في هم يوسف إذن وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس كان سيئة وأما مالم لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه هذا هو الحق فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ويكون قوله وما أبرئ نفسي الآية أي ما أبرئها من هذا الهم أو يكون ذلك على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل وبرئ فكيف وحكى أبو حاتم عن عبيدة أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن أري برهان ربه لهمّ بها وقال تعالى حاكياً عن المرأة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وقال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} وقال تعالى: {وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله} الآية وقيل في قوله وهم بها أي بزجرها ووعظها وقيل هم بها أي همه امتناعه وقيل هم بها أي نظر إليها وقيل هم بضربها ودفعها وقيل هذا كله كان قبل نبوته وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة زليخا حتى نبأه الله فألقى عله هيبة النبوة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسه هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله، وأما الإمام فخر الدين فذكر في هذا المقام كلاماً طويلاً مبسوطاً وأنا أذكر بعضه ملخصاً، فأقول قال الإمام فخر الدين الرازي: إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان بريئاً من العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب فإن الدلائل قد دلت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا يلتفت إلى ما نقله بعض المفسرين عن الأئمة المتقدمين فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموها وأتبعوها فإظهار الندامة والتوبة والاستغفار كما ذكر عن آدم عليه السلام في قوله ظلمنا أنفسنا الآية وقال في حق داود عليه الصلاة والسلام فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فلم يحك عنه شيئاً في ذلك في هذه الواقعة لأنه لو صدر منه شيء لأتبعه بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله ذلك عنه في كتابه كما ذكر عن غيره من الأنبياء وحيث لم يحك عنه شيئاً علمنا براءته مما قيل فيه ولم يصدر عنه شيء كما نقله أصحاب الأخبار ويدل على ذلك أيضاً أن كل من كان له تعلق بهذه الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام عما نسب إليه واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف والمرأة وزوجها والنسوة واللاتي قطعن أيديهن والمولود الذي شهد على القميص شهدوا ببراءته والله تعالى شهد ببراءته من الذنب أيضاً.أما بيان أن يوسف ادعى براءته مما نسب إليه فقوله هي راودتني عن نفسي، وقوله: {رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه} وأما بيان أن المرأة اعترفت ببراءة يوسف ونزاهته فقولها: أنا راودته عن نفسه فاستعصم، وقولها: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. وأما بيان أن زوج امرأة اعترف أيضاً ببراءة يوسف فقوله: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} وأما شهادة المولود ببراءته فقوله: {وشهد شاهد من أهلها} الآية وأما شهادة الله له بذلك فقوله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} ومن كان كذلك فليس للشيطان عليه سلطان بدليل قوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وبطل بهذا قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيد المرأة حتى جمع بينهما فإنه قول منكر لا يجوز لأحد أن يقول ذلك. وأما ما روي عن ابن عباس: إنه جلس منها مجلس الخائن فحاش ابن عباس أن يقول مثل هذا عن يوسف عليه الصلاة والسلام ولعل بعض أصحاب القصص وأصحاب الأخبار وضعوه عن ابن عباس، وكذلك ما روي عن مجاهد وغيره أيضاً فإنه لا يكاد يصح بسند صحيح وبطل ذلك كله وثبت ما بيناه من براءة يوسف عليه الصلاة والسلام من هذه الرذيلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وما صدر من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.فإن قلت: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله عز وجل لولا أن رأى برهان ربه فائدة.قلت: فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين أحدهما: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همّ بدفعها لقتلته فأعلمه بالبرهان أن الامتناع من ضربتها أولى صوناً للنفس عن الهلاك الوجه، الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه لتعلقت به فكان في ذلك أن يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله أن الشاهد يشهد بأنه ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن وذا تمزق من خلف كانت هي الخائنة فأعلمه الله بالبرهان هذا المعنى فلم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً فأثبت بذلك الشاهد حجة له لا عليه وأما تفسير البرهان على ما ذكره المفسرون في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} فقال قتادة وأكثر المفسرين: إن يوسف رأى صورة يعقوب عليه السلام وهو يقول له يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على أصبعه، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال السدي نودي يا يوسف أتواقعها إنما مثلك لما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق عليه وإن مثلك إن واقعتها كمثله إذا وقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً ومثلك ما لم يتواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ومثلك إن واقعتها كمثله إذا مات ودخل النمل في قرنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه وقيل إنه رأى معصماً بلا عضد عليه مكتوب {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} فولى هارباً ثم رجع فعاد المعصم وعليه مكتوب {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} فولى هارباً ثم عاد فرأى ذلك الكف وعليه مكتوب {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية ثم عاد فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام أدرك عبد ي يوسف قبل ان يصيب الخطيئة فانحط جبريل عاضاً على أصبعه يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله من الأنبياء وقيل إنه مسه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله قال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت فرأى كتاباً في حائط فيه {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وفي رواية عن ابن عباس أن رأى مثال ذلك الملك، وعن علي بن الحسين قال: كان في البيت صنم فقامت المرأة إليه وسترته بثوب فقال لها يوسف عليه السلام لم فعلت هذا قالت استحييت منه أن يراني على معصية فقال لها يوسف أتستحيين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئاً فأنا أحق أن أستحيي من ربي فهرب فذلك قوله لولا أن رأى برهان ربه أما المحققون فقد فسروا البرهان بوجوه الأول، قال جعفر بن محمد الصادق: البرهان هو النبوة التي جعلها الله تعالى في قلبه حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل الثاني البرهان حجة الله عز وجل على العبد في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب الثالث إن الله عز وجل طهر نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأخلاق الذميمة والأفعال الرذيلة وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة تحجزهم عن فعل ما لا يليق فعله {كذلك} يعني كما رأيناه البرهان كذلك {لنصرف عنه السوء} يعني الإثم {والفحشاء} يعني الزنا، وقيل: السوء مقدمات الفحشاء وقيل السوء الثناء القبيح فصرف الله عنه ذلك كله وجعله من عباده المخلصين وهو قوله: {إنه} يعني يوسف {من عبادنا المخلصين} قرئ بفتح اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين اصطفيناهم بالنبوة واخترناهم على غيرهم وقرئ بكسر اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل.
|